تنبيهات في تلاوة القرآن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلاشك أن تلاوة القرآن عبادة جليلة تكاثرت النصوص في فضلها وثوابها. ومن أعظم ذلك أن القرآن يشفع لقارئه يوم القيامة كما ورد في صحيح مسلم: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
ومع أهمية هذه العبادة وحرص أهل الخير عليها إلا أنه قد يخفى على بعض النساك مسائل وقد يحصل من بعضهم أخطاء ظاهرة فأحببت التنبيه على بعض الأمور على سبيل الاختصار والله المسدد والمعين:
الأولى: أن التلاوة الشرعية التي رتب الشارع عليها الثواب وجعل في كل حرف عشر حسنات كما صح الخبر بذلك هي ما تحرك فيها اللسان ونطقت بها الشفتان ولو بصوت منخفض يسمع الإنسان به نفسه لأن حقيقة القراءة اصطلاحا تصدق على النطق باللسان فلا يسمى الصامت قارئا. ولهذا ورد: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه). رواه ابن ماجه. فتلاوة القرآن وسائر الأذكار الشرعية لا بد من النطق بها ولا يكفي عمل القلب. أما مجرد تقليب المصحف بالنظر المجرد من غير نطق فهذا ليس بتلاوة وإنما هو من باب التفكر والتدبر وإن كان فيه أجر إلا أنه لا يحصل بذلك الثواب الخاص للقراءة. وبعض الناس تراه في المسجد ينظر في المصحف من غير أن ينطق الحروف فينبغي أن يفطن لذلك حتى لا يفوت عليه الثواب العظيم. والعبرة في النطق تحريك الشفتين ولا يشترط أن يكون الصوت عاليا. وهذا هو قول أكثر أهل العلم. سئل الإمام مالك رحمه الله عن الذي يقرأ في الصلاة ، لا يسمع أحدا ولا نفسه ، ولا يحرك به لسانا . فقال : (ليست هذه قراءة ، وإنما القراءة ما حرك له اللسان). وقال ابن الحاجب: (ولا يجوز إسرار من غير حركة لسان لأنه إذا لم يحرك لسانه لم يقرأ وإنما فكر). وقال الكاساني: (القراءة لا تكون إلا بتحريك اللسان بالحروف ألا ترى أن المصلي القادر على القراءة إذا لم يحرك لسانه بالحروف لا تجوز صلاته. وكذا لو حلف لا يقرأ سورة من القرآن فنظر فيها وفهمها ولم يحرك لسانه لم يحنث).
الثانية: أن مجرد تلاوة الآيات من غير تفكر وتدبر وإعمال للقلب عبادة يثبت فيها الثواب لأن كلام الله متعبد بتلاوته ولو لم يصاحبه فهم أو تأثر وهذا من خصائص كلام الله لا يشاركه فيه كلام آخر. قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ). فإذا قرأه الأعجمي الذي لا يعقل معانيه أو قرأه إنسان ساه عن معانيه حصل له بإذن الله الثواب والفضل ونزلت عليه البركة وحفته الملائكة ولم يكن مسيئا في ذلك لكن الأولى والأفضل أن يتدبر ويتعقل في معاني القرآن ويحرك قلبه بمواعظه ويتفاعل مع عجائبه لتزكو نفسه ويطهر قلبه ويستقيم عمله. فإن كان عنده آلة للنظر راجع كلام الموثوق بهم من أهل التفسير ليفهم معاني الآيات وإن كان لا يستطيع سأل العلماء عما أشكل عليه. وينبغي عليه أن يجتهد في الجمع بين الفهم والتدبر والقراءة في التلاوة كما كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معناها ويعملوا بها ويتأثروا بها. والملاحظ أن بعض العامة وفقهم الله يهذون القرآن هذا في المسجد من غير تفهم ويزهدون في هذا الفضل وتجد أحدهم مستمرا على هذه الطريقة سنين طويلة ولا يحاول أن يرفع عن نفسه الجهل في باب التفسير وهذا فيه نوع من الحرمان وقلة التوفيق.