مداعبته صلى الله عليه وسلم لأصحابه ..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من الحديث عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله و تقرير مبدأ التربية بالمداعبة .. واليوم نتناول مداعبة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه .. يحدونا قوله عليه الصلاة والسلام كما أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 1 / 247 ) : إن من أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضي عنه دينا ، أو تطعمه خبزا .
والآن إلى تلك المواقف التربوية ..
1- كان صهيب الرومي رضي الله عنه كثير المزاح ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلاطفه ويدخل السرور على نفسه ، وكان وقتها – أي صهيب - يأكل تمراً وبه رمد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له كما روى ذلك ابن ماجة في سننه (2/253 ) : أتأكل التمر وبك رمد ؟! فقال يا رسول الله : إنما أمضغ على الناحية الأخرى !! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالة التي كان عليها صهيب رضي الله عنه ، فقد كان مصاباً في عينيه بالرمد ، وهو في حاجة إلى المواساة والملاطفة التي تدخل السرور على نفسه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يأكل التمر : أتأكل التمر وبك رمد ؟! سبحان الله وما دخل أكل التمر بالرمد ؟! وهل الإنسان يأكل بفمه أم بعينه ؟ وليس في سؤاله صلى الله عليه وسلم إلا الحق ، فإنه مجرد استفهام لا يغير الحقيقة ، فكان جواب صهيب وقد كان مزاحاً يحمل دعابة جميلة ، فقال : يا رسول الله إنما أمضغ على الناحية الأخرى !! سبحان الله ، ومادخل المضغ على أحد الجانبين بالرمد في العين ؟! ولكنها سرعة البديهة التي أجابت على قدر السؤال ، فإذا حق لنا أن نقول : ما العلاقة بين أكل التمر وبين الرمد في السؤال ؟ جاز لنا أن نقول : وما العلاقة بين الرمد وبين الأكل على أحد الجانبين من الفم ، على أن صهيباً رضي الله عنه حين قال ما قال ، فإنه لم يقل إلا حقاً فإنه عند الأكل إنما كان يمضغ على أحد جانبيه .
2- كان من بين الصحابة الذين اشتهروا بكثرة المزاح نعيمان البدري رضي الله عنه ، فقد ذكر ابن حجر في الإصابة ( 6 / 367 ) : أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ ناقته بفنائه ، فقال بعض الصحابة لنعيمان : لو عقرتها فأكلناها ، فإنا قد قرمنا من اللحم ، فخرج الأعرابي وصاح : واعقراه يا محمد ! فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : من فعل هذا ؟ قالوا : نعيمان ، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد ، فأشار رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث هو ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : الذين دلوك لي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك ثم غرمها للأعرابي .
هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يشيرون على نعيمان رضي الله عنه بعقر الناقة ليأكلوا منها ، فلما كُشف أمره دلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، فاستخرجه صلى الله عليه وسلم من بين الأعواد ومسح التراب عن وجهه وهو يضحك متعجباً من فعله رضي الله عنه ، وجرأته على ناقة الأعرابي ، وقد عالج صلى الله عليه وسلم الموقف بغرم ناقة الأعرابي من ماله .
3- ذكر ابن حجر في الإصابة (6 /366 ) مزاح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه ، فقال : قال الزبير : وكان نعيمان لا يدخل المدينة طرفة – أي طعاماً – إلا اشترى منها ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول ها أهديته لك ، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها ، أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أعط هذا ثمن متاعه ، فيقول : أولم تهده لي ، فيقول إني والله لم يكن عندي ثمنه ، ولقد أحببت أن تأكله ، فيضحك – أي النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل - ، ويأمر لصاحبه بثمنه .
ووقفة متأنية مع نعيمان رضي الله عنه تجعلنا نجل له كل تلك الموقف .. فهو على الرغم من كثرة مزاحة واشتهاره بين الصحابة بذلك .. فقد كان يضفي على جو المدينة شيئاً من الدعابة والمرح يتقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم بصدر رحب رغم ما قد تسببه هذه المداعبات من حرج له صلى الله عليه وسلم كما في حادثة ناقة الأعرابي .. ومع هذا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم يتقبل هذه المداعبات منه رضي الله عنه ، ولا يغضب منها بل تدخل البسمة عليه صلى الله عليه وسلم ويتعجب منها .. و على الرغم من كثرة ما روي عنه رضي الله عنه من قصص طريفة ومزاحات طاهرة عفيفة إلا أنه كان فوق ذلك كله صاحب عبادة وجهاد وجد وعمل ، ومن القلائل الذين يسارعون لكل غزوة ومعركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقد شهد بدراً وأحد والخندق وبقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه انظر الإصابة ( 3 / 540 ) .
4 – ومن المواقف العجيبة في حياته صلى الله عليه وسلم وهو يمازح أصحابه موقفه من العجوز الصالحة الصوامة القوامة ، فقد روى الترمذي في الشمائل ( ص 128 ) أن عجوزاً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ، فولت تبكي ، فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول { إنا أنشأناهن إن شاء فجعلناهن أبكارا عرباً أترابا }[الواقعة/35-36] .
هنا الرسول صلى الله عليه وسلم يمازح هذه العجوز الصالحة قائلاً لها : يا أم فلان ، وهذا من حسن أدبه صلى الله عليه وسلم في إدخال السرور على الناس ، فإن تكنية الإنسان مما يدل على التقدير والاحترام الذي أمر به الإسلام .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يقرر حقيقة من حقائق الآخرة ، وهو النعيم الخالد لأهل الجنة ، في إنشاء النساء إنشاء وجعلهن عرباً أترابا .
5- ومن مزاحه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينادي أحد الصحابة بـ ( ياذا الأذنين ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم صادق في وصفه إياه بذلك .. فمن منا ليس له أذنان ؟!
6- وأتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعد للجهاد ، فقال له : احملني يارسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا حاملوك على ولد الناقة ، فقال الرجل : وما أصنع بولد الناقة ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبل إلا النوق ؟!
7 – وعن أنس رضي الله عنه قال : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير ! ما فعل النغير ؟ مختصر الشمائل المحمدية (ص 200) .
ففعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا إنما كان من باب التخفيف من حزن الصبي حيث أنه كان له طائر فمات ، فأراد أن يمازحه فساله : يا أبا عمير ما فعل النغير ؟