[size=16]الوجه الثاني
لو تدبرنا في الآيات التي جاء اللفظ فيها ب: "نزّل" نجد أن القرآن يُخبرنا أنّ الماء الذي نُزِّل جَاء ليُحوِّل الأرض من كوكب قاحل مهجور إلى كوكب ينعمُ بالحياة، في حين لم يذكر لنا القرآن في هاتين الآيتين شيء عن النبات، ويتبيَّن لنا ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ* بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ العنكبوت - الآية:63، وفي قوله تعالى :﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا* كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الزخرف - الآية:11 ، ولم يختلف علماء التفسير قط في أن المراد من كلمة "أنشرنا" هو"أحيينا". ولو تدبرنا في الآيات التي جاء اللفظ فيها ب: " أنزل" نجد أن القرآن يخبرنا أنّ الماء الذي أُنزل جاء ليخرج النبات والثمار والأشجار في حين لم يذكر لنا القرآن في هاته الآيات شيء عن إحياء الأرض الميتة، كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّة* إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ الحج - الآية: 63، وكما في قوله أيضا: (فاخرجنا به من كل الثمرات) في الآية:57 من سورة الأعراف، أو كما في قوله تعالى: (فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما) في الآية:45 من سورة الكهف، وقوله تعالى: ( فأخرجنا به نباتا وجنات ألفافا) في الآية:14 من سورة النبأ.
وهذا دليل على أنّ الماء الذي "أُنزل" لم يكن له نفس الدور الطبيعي والجيولوجي كالماء الذي "نُزِّل"، فهذا الأخير قد تَسببَ في استقرار الماء في حالة سائلة وظهور المحيطات والبحار التي كانت سبباً في بداية الحياة على الأرض وإحيائها وتحوُلها من كوكب قاحل مهجور إلى كوكب أخضر، لأنّ النباتات لم تَظهر مباشرة بعدما نزلت الأمطار الطوفانية لكنها ظهرت بعدها بملايين السنين، بينما ماء الأمطار العادية الذي جاء ذكرها باستعمال لفظ "أُنزِل" ليس سوى ماء المطر العادي والذي ينزل ليُخرج لنا الثمار والحبوب والأشجار، فهو لم يُحيِّ الأرض بل أخرج منها نباتها، فالفرق بين ذلك وذاك ليس في التعبير اللغوي فحسب لكن حتى في الأثر الطبيعي الذي يُحدثه كل واحد منهما بعد نزوله. وهذا ما قد بينه العلم الحديث في أن الأمطار الطوفانية كانت هي السبب في إحياء الأرض القاحلة والجرداء، وهذا ما لم يحدث في الكواكب السيّارة الأخرى.
الوجه الثالث
والآيات القرآنية التي جاء ذكر الماء فيها دون صفتي التنزيل أو الإنزال عديدة، نذكر منها قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لو نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ الواقعة - (الآية:68، 69، 70)، نجد في هذه الآيات الكريمة أنّ الخالق تعالى يُخبرنا أنّه لو شاء لجعل ( في الماضي) الماء الذي نشربه وننعم به اليوم ماءًا أُجاجًا، أي ماء شديد الملوحة غير عذب. فقوله تعالى: (لو نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) جاء ليخبرنا أنّ الله، عندما قدّر للماء في بداية خلق الأرض أن يستقر على سطحها عبر الأمطار الطوفانية، كان سبحانه قادراً أن يجعل كل هذه المياه ِبحاراً ومحيطات دون غيرها من مستودعات المياه العذبة ! فيكون الماء كله مالحاً أجاجاً ! والإعجاز في هذه الآية الكريمة هو في لفظ (جَعَلْنَاهُ) حيث جاء تصريف الفعل " جَعَلَ" في الماضي، فقال تعالى جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) أي أن الله تعالى يخبرنا في كتاب أُنزل منذ 14 قرنا أنّ تلك الأمطار الطوفانية التي أنزلها منذ ملايين السنين كان سبحانه قادرا أن يجعلها تتجمّع في الأرض في شكل المحيطات والبحار فقط، فيكون الماء أجاجًا ولن تكون هناك قطرة ماء عذب على وجه الأرض ! ثم قال تعالى: (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) أي هل لشَكَرتمُ الله على نعمة الماء العذب وهو الإله الذي كان قادرا أن يحرمكم من هذه النعمة ويجعل كل الماء المنّزل في أول الأمر وفي بداية الخلق مالحًا فلا حناجر ترتوي ولا أنعام تُسقى ولا نبات يُخرح. الوجه الرابع
ومن الآيات القرآنية الأخرى التي جاء ذكر الماء فيها دون صفتي التنزيل والإنزال
قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ الملك - (الآية: 30)، وغورًا تعني ذاهباً في الأرض إلى الأسفل، لأن الغائر في اللغة العربية هو عكس النابع، أما الماء المعين فهو الماء الدافق الجاري فوق الأرض والتي تراه الأعين وتناله الأيدي والدِلاء، أي أنّ الخالق تعالى يقول لعباده: ماذا ستصنعون لو ذهب الماء الذي في آباركم وبحيراتكم وبحاركم إلى عمق الأرض؟ كيف ستنعمون وستعيشون من دونه إذا؟ هل من إله غيري وهل من رب سواي سيأتيكم بعد ذلك بماء جاري نابع ومتدفق ليعيد إليكم الحياة ؟ فماذا نصنعُ نحن البشر لو أعاد الله الماء إلى حالته التي كان عليها قبل بداية الخلق، أي قبل 4.5 مليارات سنة؟ حيث كان حبيسا في جيوب القشرة الأرضية؟ والإعجاز في هذه الآية الكريمة هو في لفظي (إِنْ أَصْبَحَ)، حيث إن اللغة العربية هي لغة جديرة بأن تُعطي للشرط معنى أكثر دقة ووضوحا بعكس اللغاة الأخرى، حيث نجد هناك كلمات للتعبير عن الشك في حدوث أو عدم حدوث الشيء كعبارة "إذا"، وكلمات للتعبير عن الافتراض القابل لحدوث الشيء كعبارة " إِنْ "، وكلمات للتعبير عن الافتراض الغير قابل لحدوث الشيء كعبارة " لو"، وعلى هذا النحو جاءت عبارة " إِنْ " في قوله تعالى (إِنْ أَصْبَحَ) لتُظهر لنا افتراضاً يمكن حدوثه، والحدث هنا هو أن يصبح الماء غورًا، وهو حدث قابل لأن يتحقق، فكيف لا يمكنه أن يتحقق والقوة التي أخرجت الماء من الأرض قادرة بأن تعيده إليها، وليس ذلك عليها بعسير. فهنا إشارة قرآنية إلى أن الماء الذي ننعم به اليوم كان في إحدى الأيام غائرًا ضاربًا في الأسفل وفي جيوب القشرة الأرضية قبل أن يستقر على سطح الأرض، وهذا قول الجيولوجيون في المصدر الثاني للماء.
خلاصة
من خلال هذه المعلومات والحقائق العلمية الحديثة يمكننا أن نستنتج أن استقرار الماء على الأرض لم يكن محض الصُدفة، لكن كان وفقًا لحسابات ووفقًا لشروط تتالت وتوفَّرت ووُضعت بصفة مذهلة ومُعجزة من طرف قوة قادرة على ذلك، فمن دون أدنى شك نقول أنّ خالق الكون هو الذي جعل الأرض مهيأة لاستقبال الماء واستقراره فيها دون غيرها من الكواكب السيّارة الأخرى وأنّ له حكمة بالغة في ذلك كله، وهذا برهان لكل من يُنكر حقيقة الخلق ويستبدلها جُحودًا بقوة الطبيعة وخرافة الصدفة، ولو كان ما يزعمونه صحيحاً ومنطقياً وليس باطلاً وزورًا، فإننا نسألهم لماذا لم تجعل الصدفة أو الطبيعة تلك الأسباب تتوافق وتتراتب وتتوفر لكي تجعل الماء يستقرُ في كواكب أخرى من دون الأرض؟! ثم لو افترضنا أنّ استقرار الماء على سطح الأرض كان صدفة فهل النسبة المثلى لليابسة والبحار (30% و70%) جاءت محض الصدفة أيضا؟ لا يمكن أن تكون كل تلك الأحداث الدقيقة صدفة لأنّ دروس الاحتمالات والمنطق الرياضي علّمتنا أن الصُدفْ لا تتوالى بتلك السهولة ! فالواحد منا قد يفني أشهراً وأعوامًا في رمي زهرة النرْد[19] وبلكاد يتحصل على التوفيقات التي يريدها، وإذا حصل عليها فلن يحصل على النتائج متتالية ومتتابعة حتى ولو أفنى عمره يعبث بزهرة النرْد تلك !! فكيف يمكن إذًا لكل تلك الأحداث الكونية التي نُظمت وسُخّرت بإحكام لكي تتسبب في ظهور 2.5 مليون مليار طن من الماء[20] أن تتصادف كل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة وكل يوم طيلة 4.5 مليار من السنين ؟! بل كيف يمكن للأحداث والأسباب الكونية أن تتصادف وتنتج لنا مليارات من النجوم[21] في 14 مليار سنة شمسية[22] ؟ بينما لم يشهد بشرٌ قط أن تصادفت أحداث تجارِبه المخبرية وأنتجت له خلية أو حتى ذرة واحدة !!
هكذا قد بيّنا في بحثنا هذا كيف فصّل القرآن بين صفة نزول الماء من السماء إلى الأرض عبر الأمطار الطوفانية في بداية خلق الأرض وبين صفة نزول الأمطار الموسمية العادية، مُبيِّنًا لنا الفرق في المدة الزمنية التي تسغرقها كل واحدة منها والفرق في غزارتها وحجمها أيضًا، ومُبيِّنًا لنا دور كل واحدة منها وأثرها الجيولوجي، وكل ذلك في صفتين لغويتين وفي صورة بديعية رائعة لم تعجز ألسنتنا فحسب لك أعجزت حتى عقولنا وعلومنا. كما بيّنا أيضًا في بحثنا هذا كيف أشار القرآن إلى استقرار الماء في الأرض في وصف بديع رائع ومُعجز، يسبق بذلك النظريات العلمية الحديثة بمئات السنين ليشرح لنا ظاهرة طبيعية حدثت منذ ملايين السنين ! كل هذا يجعلنا نتساءل كيف يمكن لحديث دقيق كهذا- في كتاب أُنزل في القرن السادس الميلادي- أن يكون من قول البشر؟ بل كيف يمكن لحديث كهذا أن يتواجد في حقبة زمنية كتلك؟ حقبة زمنية تنعدم فيها أدنى وسائل المراقبة والحساب والأدوات العلمية الجيولوجية والفلكية الحديثة ؟! ففي الفترة التي بُعث فيها الحبيب المصطفى – عليه الصلاة السلام- لم يبلغ البشر أعلى القمم فوق الأرض ولا أعمق الحفر تحت البحر، ولم يكونوا قد بلغوا كل ربوع المعمورة، ولم تكن لهذا النبي حينئذ آلات ولا أقمار صناعية ولا آلات الرصد الحديثة، ولم يكن لديه قواعد الفلك ولا أسس الجيولوجية ! وحتى وإن كان له كل هذا فهو- بأبي وأمي- كان أمياّ لا يعرف الكتابة ولا القراءة، فكيف له أن يفتري على الله وأن يكتب كتابًا أعجز البشر في كل الأزمان؟! وجوابنا لكل عاقل لبيب أنّ هذا الحديث العظيم يجب أن يكون مُنزّلاً من عند إله عزيز مقتدر، حديث في كتاب أنزله على نبيه وعبده الأمي ليكون منهجا وعلما ينوّر للبشرية سبل النجاة، كتاب فيه من العلم ما هو معجز، يُعجز بيان العرب وعلم العجم وعلم الأولين والآخرين، وكيف لا يعجزُهم وعلمُهم أجمعين إلى علمه سبحانه وتعالى كبحر تنقُصه قطرة ماء بحجم هذه النقطة التي ننهي بها هذه الفقرة.
[/size]